كارتر؛ تنوير سابق لعصره!
بقلم: صابر کلعنبري
عند الحديث عن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الذي توفي أمس عن عمر يناهز 100 عام، عادة ما یتم مناقشة فترة رئاسته التي استمرت أربع سنوات والتطورات الهامة التي طرأت علی تلك الحقبة، من الأزمة الاقتصادية الداخلية واتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل إلى سقوط الشاه وحادثة السفارة الأميركية في طهران وتطبيع العلاقات مع الصين، لكن كارتر بعد الرئاسة یظل مهملاً.
كان كارتر "مسيحياً متديناً" وحياته بعد الرئاسة مع إنشاء مركز كارتر أصبحت عالماً آخر مختلفاً عن ذي قبل. وفي عالم ما بعد الرئاسة، تغيرت نظرته لإسرائيل والصراع الفلسطيني تدريجياً مع توسیع المستوطنات واحتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية، ومع تطبيق علمه وخبرته العملية اتجه إلى انتقاد إسرائيل، وسماها "النظام الفصل العنصري" في عام 2006 بتألیف كتاب "فلسطين؛ السلام لا الفصل العنصري" وانتقد السياسات الأمريكية.
واعتبر کارتر أن الهدف من تأليف هذا الكتاب هو بيان الحقائق التي يجهلها الشعب الأمريكي عن فلسطين، وقال إنه "بسبب النشاط الكبير للوبي المؤيد لإسرائيل وغياب الأصوات المعارضة النشطة"، لا يوجد أي نقاش جدي حول الوضع الفلسطيني في الولايات المتحدة.
لقد كتب هذا الكتاب في فترة لم تكن النخبة ووسائل الإعلام الأمريكية منفتحة على انتقاد إسرائيل كما هي اليوم، و کان یحاول اللوبي الإسرائيلي إسكات كل صوت محتج بهجوم شديد. هذا الكتاب لكارتر كان بمثابة قنبلة إخبارية في أمريكا، وتعرض لهجوم من كل جانب من قبل هذا اللوبي وأذرعه السياسية والإعلامية، لدرجة أنه تم توجيه أبشع الألفاظ والشتائم إليه ووصفوه بمعادي السامية.
وفي هذه الأثناء، كانت استقالة كينيث ستاين، مدير مركز كارتر، بمثابة ضربة قوية لكارتر؛ وفي الوقت نفسه، قاد شتاين موجة من الاستقالات في المركز، واستقال العديد من الأعضاء اليهود الذين كانوا برفقته. كما جمع مركز سيمون فيزنتال، أحد أهم مراكز الدفاع عن اليهود في العالم، آلاف التوقيعات ضد كارتر في بيان له، واصفا إياه بأنه "المتحدث باسم القضية الفلسطينية" و"أحد أشد منتقدي إسرائيل".
وبعد أشهر قليلة من تأليف الكتاب، ورغم الضغوط الشديدة، أكد كارتر في حديث مع صحيفة الأوبزرفر البريطانية أنه غير نادم على وصف إسرائيل بالکیان الفصل العنصري، وأن "هذه الكلمة هي أدق وصف للوضع الفلسطيني". لكن بعد ثلاث سنوات من تأليف الكتاب ومع استمرار الهجوم والضغوط اضطر إلى شرح عنه، وهو ما اعتبر نوعا من "الاعتذار" لليهود.
لكن كتاب كارتر الذي أصبح من أكثر الكتب مبيعا في أمريكا، کان ناجحاً وفتح فصلاً تاريخياً للنقاش والجدل الدائر حول إسرائيل وسياساتها العنصرية في أمريكا، وأصبح أحد عوامل التراجع المستمر للنخبة السياسية والاجتماعية الإسرائیلیة في أمريكا في هذين العقدين.
وبعد عقدين من الزمن، ومع بدء حرب غزة، انتعشت ذكرى كارتر في أذهان معارضي إسرائيل في أميركا؛ وبقدر ما تأثر العام الماضي بهذا الكم من الجرائم والإبادة الجماعية في غزة، لجأ منتقدو كارتر الشرسون هذه المرة إلى الاعتذار له یوم أمس.
على سبيل المثال، كتب بيتر بينارت، الذي يشار إليه على أنه "الصهيوني الليبرالي الأكثر تأثيرًا في جيله"، في رسالة اعتذار إلى كارتر: "الآن أصبحت الحقائق واضحةً وأعتقد أن ما قاله كارتر عام 2006 أظهر أنه کان سابقاً لعصره".
كما أن ستيف بيرمان، الناشط اليهودي البارز السابق في مركز كارتر، كتب رسالة إلى كارتر في بداية عام 2024 وبعد ثلاثة أشهر من حرب غزة، واعتذر له عن احتجاجه على كتابه وترك المعهد، وأنه الآن يدرك أن الاحتلال الإسرائيلي هو "مشروع ذو أهداف استعمارية.
وغني عن القول أن مركز كارتر كان له أيضًا أنشطة إنسانية في غزة والضفة الغربية، وأشرف على ثلاث انتخابات في فلسطين، بما في ذلك الانتخابات الأخيرة عام 2006، والتي أدت إلى فوز حماس، وأكدت نزاهتها. فقد سافر کارتر إلى غزة ودمشق عدة مرات (قبل الأزمة السورية) للقاء قادة حماس، وأثار لقاءه المصور مع هنية (رئيس وزراء فلسطين آنذاك) في غزة في ذلك الوقت مرة أخرى احتجاجات في الأوساط الإسرائيلية.
وبهذه الرحلات إلى المنطقة، كان كارتر يبحث عن السلام من خلال حل لهذا الصراع التاريخي في المنطقة، الذي کان یعتبره مشكلة وأزمة إنسانية. لكن مراكز القوى في أمريكا وإسرائيل لم ترافقه والتحول الذي حدث في نظرته لهذه القضية واتضح أكثر مع نشر كتابه، جعله يغضب من هذه المراكز ولم يحقق النجاح.
الآراء